الجمعة، 25 ديسمبر 2015

المجوسي أنطوان حرب The magi Antoine HARB

في الذكرى الثانية لرحيله، تحيّة من "المسرح الآخر" لأنطوان حرب الإنسان والمثقّف، حاضن كل الفناّنين والمبدعين الجادّين والمناضل في سبيل ثقافة الصدق والإنسانيّة .

In the second anniversary of his death, a tribute from "The Other THEATER" to Antoine HARB, the human and the intellectual who has always supported true artists and creators and has always fought for the love of a human culture of honesty..

الأستاذ أنطوان حرب، المديرالسابق لقصر الأونيسكو- بيروت
Mr. Antoine HARB, the former director of the Unesco palace- Beirut
طلال درجاني- السفير

وما ان رفع أحدنا الكأس ليشرب نخباً، أحسسنا بالطاولة تهتزّ والملاعق تتمايل على الصحون وتنبطح على الطاولة وتحتها... هزة أرضية ناعمة لا تتعدّى قوتها النصف درجة، إنها تردّدات حميميّة. تسّمرنا لحظة لنسمع الصمت الآتي. وعد أنه سيأتي متأخراً واذا بمؤثرات خيال صدقه تتّجه نحونا، وقد أعلَنَت، قبل وصوله بدقائق، خابية الخمر المعتق التي كنتُ قد سرقتُها من مخابىء سراديب الدير، إلتزامها باحتفالية الإستقبال، ورافقته بزفة العريس بين صخور حجارة مدخل الطاحونة على ضفاف نهر رشعين...
في اللحظة ذاتها، عبرت إليه نسمة من الرياح الجارحة وأطلقت له حضنها الوفي، وفرشت له الطريق الضّيقة أوراقاً من شجر الحور الذهبية، وحطّت على شاله الأسود الطويل بقايا من ألوان الشتاء. شعر كِمّا معطفه، الأشد فرحاً بسواده، بالغيرة، فلَبِسا غباراً من حجر صوان الأرض الممزوج بزهر الرمان المجفّف... وفور إلقائه التحية، خيّم على هندسة عقد حجر الطاحونة صمت الفرح، وتصاعدت في لحظتها طرطقة الكوؤس نفسها بنفسها ابتهاجاً بالمجوسي الطيب، وفي الثانية نفسها، ارتجلت أصابعنا فعل التصفيق، ودون وعيٍ منّا، تطايرت الأظافر وانغرست في جدران مطعم طاحونتنا قناديل حمراء خرجت منها أضواء المحبة، واخترق شعاعها سقف جلستنا لترسم حفرة هرب منها اللهيب باتجاه سوداوية السماء فامتزج بالنجوم وأعلن بذلك الإفتتاح الرسمي لقدوم أحد عمالقة المجوس، لتنفتح بعد ذلك شرايين حناجرنا حباً وتُصدِر لحناً يشبه عالم سمفونيات العظيم تشايكوفسكي...
عشرات الكراسي الفارغة تتقاتل عليه بشغف الأمومة... فانتصر كرسي من القش اليابس المعتّق والمنتوف، وتسللّ بالسر المعلن وانتصب حول طاولتنا تاركاً الحرية له باختيار المكان، وانتظر لحظة الجلوس لكي يتبارك بإسم فلسفة الإنسان والطبيعة ولتكون إشارة الالتزام المطلق بالفكر الإنساني...
وما ان استراح حتى احتلّت، على الفور، رائحة يانسون البخور الفضاء وارتفعت أمامه ألفية العرق البلدي الشاهقة كشجرة الحور، وتمركزت بين شفتيه كعشيقة الحب الآتي... بدأت الحوريات بالتوالد دفعات دفعات من حبوب أغصان شجر الحور وطُبِعت على ظهر كراسينا شعاراً لحرية الحوار الديمقراطي، فانتشرت الأفكار السياسية والفنية من أفواهنا والتصقت بين ممرّات الأحجار الصخرية لطاحونتنا الأثرية فبدا النقاش وكأنه متحف والمجوسي مفتاحه الثابت... وقف فجأة فالتزمت عاصفة الكؤوس الهدوء الواعي والتزم معها ضجيج الألسن وحركة رقص الشفاه، فتسمرّت عيون الجموع باتجاه جفونه التي تشبه الورود المكسوة بالثلج الأبيض المخمّر بنظافته... وسيطر الصمت الداخلي على جبين الحضور... كان ممثلاً رائعاً حقاً بإتقانه تنفيذ فعل الصمت في هذا العرس الوجودي، وهو من أصعب وظائف إعداد الممثل على الإطلاق..
تنفّس حبّاً: "اسمحوا لي بأن ألتقط صورة تذكارية..."، وأعادها ثلاث مرات من زوايا مختلفة وهو خارجها بالشكل، ولكن بمضمونها، عادت فرحة عرس الأصدقاء تتسابق إليه تكريماً بين الشعر والغناء والمسرح والسياسة... حلقة مميّزة بتناقضاتها وبحبّ الآخر بكل شفافية الصدق الإنساني...
ما إن غاب نقيق الضفادع المنتشرة حولنا حتى حاصر شرشفنا جوانب الطاولة ففرغت صحون الجرجير من أمامه... تأمّل قليلاً... سها بشرود متقن... تناول حبة فستق وقذف بها باتجاه الخابية فنخرتها من أسفلها وهربت فوراً من عنقها. وما كان من حنفية الخمر إلا أن أصدرت صفارة الإنذار مطالبة بالنجدة، بمدّ أنابيب الخمر اليها من جديد. في تلك اللحظة، خرج المجوسي من دفء صخور الجلسة الى ثلج مياه النهر والتي تتوالد مثل الطوفان في عرضه الحُرّ، وتتضارب شلالاته الى خارج أطرافه المتعرّجة...
لحقنا به... حرارة الطقس تقارب الصفر والرطوبة عالية جداً يغطّي ضبابها سطح البساتين الخضراء ببرتقالها الأصفر... هرّب المجوسي بهدوئه المعهود جزمته السوداء من رجليه وبرفقة جواربه الصوفية السواد أيضاً، شمّر بنطلونه العابق حتى أعلى ركبتيه، فارتبكت شعيرات شرايين جسده ومال لونها الى الرمادي، لكنه لم ينتبه... حدّق طويلاً في غليان الطوفان، فصمت النهر فوراً وتحوّل فجأة إلى بحيرة ساكنة تشكو من الوحدة القاتلة... نعم، هبطت أصابع رجليه فوق سطح جمر ثلج المياه ومشى بين حصى النهر وأظافره تداعب أسماك الترويت. سمعنا صدى قهقهتها حتى حدود الغيوم وكأنها في شهر عسل وفي أجمل جزيرة على سطح كوكب خيالي... مسامات رجليه تفلح الثلج وترسم سواقي نبتت فيها أبعاد صوته الممزوج بآيات من أولى مشية الطفولة...
تابع يخطو متعباً عكس التيار لأن هدفه فم النبع بالذات. تصادفه في الطريق البالوعة تلوى البالوعة، تحاول جرّه الى نفق المياه الغادرة وتتسابق على اصطياده. حتى جذور الأشجار شعرت بأنه غنيمة كبرى وفرصة لا تُفَوّت... وهو يتابع نضاله وأمام عينيه المتعبتين يطفو وبر جسده الأبيض على سطح المياه المجلّدة وتحت بصمات أصابع رجليه يلوّن الهدوء الحصى، من مبادئ الثقافة المختلفة...
وصل الى الهدف الأعلى، تمركز وبعناد في وجه فم النبع، سبحت يده اليمنى في الزلزال المائيّ الذي يتدفق من بين أعمدة الحديد المتآكلة صدأً. زارته سمكة بطول ذراعيه. حاول التقاطها فأطبقت أسنانها على أصابع يده الطريّة. صرخ فرحاً وسحبها بكوعه المستقيم وقدّمها لنا مع باقة من الجرجير بلونه الأخضر المختلف وطعمه الخروبي الحادّ...
المجوسي نباتي... ترك الجميع ليبحث عن نباتاته في الطبيعة وتحديداً تحت ترابها... في هذه اللحظة علت من بين ضلوعنا صفارة إنذار انتهاء الخمر، فغرف مياهاً مذوّبة في الثلج بين كفيه العريضين، من فم طوفان النبع مباشرةً، وحوّلها خمراً وسقى المجموعة بالتساوي، وازدهرت حالتنا الجسدية وطافت الخوابي أملاً بالخلاص الحتمي...
بالقرب من أطراف أسوار مغارة في وسط الجبل، اشتمّت أسماك الجهل رائحة جسد غريب يفلح أعماق المياه بلغة جديدة مغايرة للغات التقليدية. سارعت الأسماك وانقضّت عليه، فالتفّتْ حول كاحليه، واختار واحدةً أقل طولاً من سابقاتها ورفعها باتجاه السماء الملبّدة كرهاً للطبيعة، وشواها على بخار ضباب رطوبة المياه وأطعم الجميع، وبالتساوي كذلك...
ومنذ تلك اللحظة طُلِيَت جدران أكواخ القرية وثمار أشجارها بألوان سعادة التغيير، وحاصرت الجهلة فيها، فسارع حمامهم الأعرج ليستحم بالمياه المقدسة...
فجأة، تغيّر المناخ وبدأت تمطر ثلجاً بحجم البرتقال مصحوباً بسنابل نارية مدفونة بين غبار المطر ورائحة شتاء التربة. أخذت الدوائر تتدحرج حتى امتدت نيران المياه الى جسد المجوسي، وهجمت بالوعة بحجم قطيع من الضباع وخنقته بين حصى النهر وتناقضات الطبيعة. رحنا نسمع ممّا بعد الأفق صراخ الوبرات، ونشتم رائحة احتراقها وكأنها غذاء لفقراء السمك الشارد في ضباب الرطوبة وفي هدير أمواج المياه...
اصطفّت أعيننا تراقبه بخوف عتيق وهو في طريقه الى الإنسانية. توقف فجأةً أمام شجرة صفصاف بطول جسده تقريباً، بدت وكأنها تمزّق الضباب وتعلوه... حدّق بها لساعات... محا بكاء جسده قشرتها القاسية، وأذابها قطراً ليسقي بها الأرض المُرّة. حاول مصادقتها من خلال دموعه، لكنها لم تستجب، فهوت من أعماق جذعها وقطعت المياه بعرض النهر كسدٍّ من أضخم السدود. طافت حبات البرتقال وتسلّلت الى طرقات ودكاكين القرية وزواريبها المصدّعة، ومنها الى المدينة وحجارتها المسروقة والمصطنعة، فارتبكت زحمة من المشاهدين يتسابقون لرؤية المجوسي وهو يربط عقدة شجرة الصفصاف بسلك من الحرير الناعم وينحت على مقدمتها شراعاً أحمر يشبه فراشات الليل البيضاء، وغفا عليها كنعش يجرّه باتجاه أعماق صخور سمك البحر...
اخترق النعش بساتين البرتقال والزيتون والدموع تقطر منه وتسقي الأوراق اليابسة. وعلى الفور، تحوّل التراب رملاً أحمر وعلا صراخ صخر رُحى مكابس الزيتون وهي تطحن خشب الصفصاف وتحوّله فحماً ليتدفّأ عليه الآخرون... حتى أن طيور الأرض ونمله هجمت عليه وراحت تلامس رائحة النعش وتتبارك منه وتسرق فحمه كمونة للشتاء القادم... أمّا نحن فنقف كالتماثيل التي تنزف حزناً والرعب يجرّنا الى المجهول، سألنا الآلهة مئات الأسئلة، فأجابتنا الطبيعة بزلزال غيّر معالم الوطن... مات المجوسي.
رأينا من بعيد حمامة تحفر برأس منقارها بين مساميرالنعش وتقطّر في داخل جيوبها بركة ثم تطير لكي تنشرها بين مجلّدات الصحف والكتب الآتية بحراً، ومن ثم على خشبة المسارح الحضارية بلغتها الأكاديمية... اصطفّت الحشود وتكدّست كجبال حبوب الزيتون، وضاعت الحيوانات بين البشر واختلطت الروائح ببعضها البعض على ضفاف النهر وركعت المجاميع بعد ذلك، وهي ترتّل ترانيم الخلاص... والآلهة خارج الحياة... لأنهم اعتنقوا الجمود المطلق...
غطست الشمس في أعماق النبع، وأشعل الرماد النار من نفط جسد المجوسي، وبنى القمر كوخاً تحت رماد المياه المتسارعة باتجاه جلالة المقبرة... علت الترانيم وجعاً برتبة "قاسية جداً" وتحوّلت مياه الينابيع الى طعم مالح المرورة. احترق ما تبّقى من شجرة الصفصاف تحت ثلج المطر، وتحوّل رمادها وحلاً بلون الموت القاطم...
بقي المجوسي وحيداً متمسّكاً بقوة بسلك الحرير، يبحث عن طعامٍ لنا وللآخرين...
خذ وقتك بالبحث يا رفيقي.. ولكن أعِد لنا الصورة التذكارية لأننا بحاجة أن نرى حقيقة أنفسنا من دونك...
أريد أن أخبرك بأن حجر الطاحون الذي يزن أطناناً استغلّ غيابك وتدحرج خبثاً وتسمّر بقوة على باب الطاحونة، وبقيت ملابسنا في الداخل ونحن عراة نراقب مسيرتك وسيرتك الذاتية، والحرارة تحت الصفر، صقيع لم تشهد مثله البشرية صقيعاً، ولا أحد غيرك يستطيع طحن هذه الصخرة.... رجاءً افتح لنا نافذة صغيرة لكي نسرق ثيابنا خوفاً من الموت برداً... وبعد ذلك ارحل حيثما شئت... أنت ترقص دفءً تحت التراب بينما تتجمّد أجسادنا بحركة بطيئة ونحن نغنّي برداً في الحياة، غريب أنت أيها المجوسي... كاسك....
وتنهّدت أجراس الكنائس لتقرأ حدث تاريخ الولادة الحقيقية للإنسان... وتوزعت أعضاء الأوركسترا بين أغصان وحبوب الوطن لتسجّل سمفونية نشيد المجوسي أنطوان حرب. واحترقت الغيوم، وذابت خارج الحرية....

ملاحظة: توفّي المجوسي أنطوان حرب في 24ـ12ـ 2013 أي بعد سبعين ساعة من مشاركته في وليمة سيمبوزيوم المسرح الآخر على ضفاف نهر رشعين، برفقة انطوان كرباج، نهيد درجاني، نعمة بدوي، حسام الصباح، رفيق علي أحمد، اسكندر حبش وطلال درجاني.

الرابط أدناه بقلم البروفسّور طلال درجاني- جريدة السفير 31/01/2012

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق