الأربعاء، 7 أكتوبر 2015

"حارس المزار": تحيّة من طلال درجاني إلى غازي قهوجي "the guardian of the Sanctuary": Greetings from Talal DARJANI to Ghazi KAHWAJI

 "... وأصبح شاطئ صور مزاراً للخيال والتخيّل ومتحفاً بنيت جدرانه من مشهديّات فنيّة واقعيّة ترمز إلى اللغة الإنسانيّة..."

"... And the coast of Tyr become a place of pilgrimage of the imagination and imaginary, a museum which walls are built of artistic and realistic scenes symbolizing the human language ..."

__________________
في العام ٢٠١٤ كرّم البروفسّور غازي قهوجي في قصر الأونيسكو بحضور مجموعة من الفنّانين والمثقّفين،
والقصّة أدناه "حارس المزار" بقلم البروفسور طلال درجاني مقتطفة من الكتاب "غازي قهوجي فنّاناً وأديباً" الذي صدر في هذا المناسبة عن الحركة الثقافيّة في لبنان.

In 2014, Professor Ghazi Kahwaji was honored at the UNESCO Palace in the presence of a group of artists and intellectuals.The story below: "the guardian of the Sanctuary" by Pr. Talal Darjani comes from the book "Ghazi Kahwaji an artist and a man of letters," which was published on the occasion of this tribute by the cultural movement in Lebanon .
البروفسّور غازي قهوجي والبروفسّور طلال درجاني
Pr. Ghazi KAHWAJI & Pr. Talal DARJANI


 حارسُ المزار

          زحفت مكتبتُه باتجاه البحرِ المولودِ فيه والمحبّبِ له، فعَلّم مياهَهُ شفافيّةَ اللونِ من بناءِ مخليّةِ كلماتِ أفكارِه الفنيّة، وتسلّلت أحرفُها علناً من بين الرمالِ فخطفتها الأسماكُ ونشرتها بين تفاصيلِ الموجاتِ كمدخلٍ لعرضٍ سينوغرافي...
          وأصبح شاطىءُ صور مزاراً للخيالِ والتخيّلِ ومتحفاً بُنِيَت جدرانُه من مشهدياتٍ فنيةٍ واقعيةٍ ترمز الى اللغةِ الإنسانيةِ، ولحظةَ اكتشافِه المكانَ علا صراخُ فرحةِ عصافيرِ البحرِ وهي تنشد أنشودةَ البقاءِ في عتمةٍ فنيّةٍ بلونِ السوادِ الحاد... خَلَقَ المكانَ من مبادىءِ المنهجِ الواقعي... مدينةٌ، بحرٌ، شوارع، إمرأة، مسرح، وطبيعةٌ متنوّعةٌ ولدت من لونِ أوراقِ شجرِ الليمون...
          يضاهي مزارُ الشاطىءِ آثارَ المدينةِ بعظمةِ فكرتِهِ الهندسيّةِ وحجمِه العالمي... أجلسني فضاؤُه بجانبِ نافذتِه أستمتع برؤيةِ تطويرِ شعاعِهِ ونورِهِ المعكوسِ على أفقِ وعمقِ البحرِ، فأربكتني حالةُ النقيضِ المميّز...
الطقسُ ماطرٌ وعاصفٌ... والبحرُ هادىء.
يبعثرُ الرعدُ حباتِ الليمون ويكدسُّها في علبِ الأفراحِ، والأشجارُ نائمة.
تخوضُ الغيومُ معاركَ قاسيةً في سرعةِ تبديل اللون، والشمس تحرقُ أجسادَ صخرِ صور.
          يتطايرُ صدى الزوارِ من داخلِ المزار، ينادون بهدفِهم الأعلى: فهمُ الآخر. وركعَ فنانُ المعبدِ في وسطِ البحرِ وحولَ نقطةٍ مفصليّةٍ هي ملتقى لكلِّ ينابيعِ العالمِ الحضاري، أمسكَ بريشتِه وبدأَ يغيّرُ لونَ المياهِ وأشكالَ موجاتِها، ويعيدُ لها اعتبارَها في بعثِ صدقيّتِها الى الإنسانِ المبدع. فتسابقَتِ الأسماكُ اليه... بنى لها خشبةَ مسرحٍ عاريةً عن الكواليس، وبدأت التمارينُ السينوغرافية، اختار الشخصياتِ الخمس من بين آلافِ الأسماكِ الذكية والطاهرةِ والمميزةِ في أدائِها التطبيقي، وزّعَ الأدوارَ، وبدأت عمليةُ تحليلِ النصّ "حول الطاولة" وكيفيّةِ نموّ الشخصيةِ وتطورِّها من أجلِ الوصولِ الى الهدفِ الرئيسِ لها ومن خلالِ ارتباطِها بعالمِ الآخرين... شرّحَ المكانَ بشكلٍ دقيق، وركّزَ على أهميّةِ التحليلِ النفسي للزمانِ وحجمِه للحدثِ المنتظرِ وغيرِ المنتظرِ في الحركةِ الدرامية، وبحثَ مطولاً في مفهومِ الصراعِ في الشكلِ والمضمون، وأعطى أهميةً كبرى لنشوءِ بذرةِ السينوغرافيا وكيفيةِ البحثِ عنها وتطويرِها وتحديدِها بدقّةٍ لا تحتملُ الخطأَ ولا التزويرَ ولا السرقةَ وانطلاقاً من فكرةِ المخرجِ، فبغيرِ ذلكَ تنبتُ البذرةُ في حقلٍ آخر وثمرةٍ أخرى وقد لا يكونُ لها علاقةٌ مطلقاً لا بجوهرِ فكرةِ المؤلفِ ولا بالنص.
          ينظّمُ صاحبُنا التمارينَ مشياً على ركبتَيِه فوقَ المياهِ المالحةِ وفي جورةِ كفَّيْه ينابيعُ حلوة...
          وبدأ العرضُ الحضاريُّ وحسبَ التوقيتِ العالميّ لمنهجيّةِ تأليفِ وبناءِ وتنفيذِ السينوغرافيا.
أسماكٌ ترقصُ الباليه...
أسماكٌ تغنّي سمفونيّاتٍ كلاسيكيةَ...
أسماكٌ تمثّلُ شخصيّاتٍ دراميّةَ مطبوعةَ منذ آلافِ السنين...
أسماكٌ ترقصُ على الجليد...
أسماكٌ تلعبُ السيرك...
أسماكٌ تقدّمُ تمارينَ الجسد... وأسماكٌ ترفضُ أن تكونَ دميةً وترفضُ أن تكونَ صامتة...
          عرضٌ سينوغرافيٌّ متكاملٌ وعلى مستوى عمقِ وعرضِ بحرِه وبحجمِ قلعتِه الأثريةِ ومزارِه التاريخيّ... للتكاملِ بقيّة، أسماكٌ تشبهُ حركةَ النملِ وهي تجرُّ بأسنانِها أطناناً من صخرِ المدينة لتنفيذِ سينوغرافيا تحتَ الماءِ وفوقَه، صمَّمها مبدعٌ كان التخيّلُ أساساً لفكرِه... صمّمَ للشخصياتِ البحريةِ أزياءَ فنيّةً واقعيةً من أساطيرِ الصحراءِ المنسيّةِ فولدت منها إضاءاتٌ تتفجّر من صخورِ المياهِ وعلى عمقِ ملايين الأمتار وعلى مساحاتِ اليابسةِ بكلِّ طقوسِها، ومنبعُها قوسُ قزح. وابتكرَ من الضوءِ عالمَ أزياءِ شخصياتِه فأعادَ بذاكرتِه حقيقةَ نشوءِ الشخصيّةِ والمفهوم العلمي لبنائِها وتطورِّها ومزج خيالَه بالتاريخِ فكانت الفانتازيا، ومضمونُها: سؤالٌ يُطرحُ على المشاهدين... والإجاباتُ ملكُ تاريخِ الفنِّ فقط وملكُ صانعيه. فحملنا في تفكيرِنا كلَّ تساؤلاتِ أبعادِ رؤيةِ السنوغرافيا وكلَّ إبداعاتِها الفكريّة...
          جلسَ حارسُ المزارِ ونظرَ في المدى الى مدينةِ السلامِ وصخرِها المنتشرِ فوقَ الصوان.
          إنها سينوغرافيا صخريّةُ الجوهرِ والمكانِ والزمانِ الآتي من مبادئِه وبأسلوبِ نحتِ كلِّ بصريّاتِه... تغيّر المناخُ فوراً وكان الطوفانُ الثقافيُّ وبصحبةِ الحضارةِ الإنسانيّةِ  يزرعُ تماثيلَ الحريةِ بين خطوطِ المياهِ وتعرجّاتِها.
         انتهى العرضُ ولم تسطعْ الأسماكُ خلعَ أزيائِها التي أصبحت جلدَها الطبيعيَّ المعترفَ به، مغرّدةَ بين تقاسيمِ المياهِ، تداعبُ ألوانَ حباتِ الليمونِ التي قطفَت نفسَها بنفسِها لتكون الكأسَ الحقيقيَّ لرائحةِ نشوءِ السينوغرافيا ولتكون مدرسةً ومنهجاً تعليمياً للفكرِ الإبداعي...
         قرأتُ على بصماتِ أصابعِ الحارسِ مشهدياتِ العهدِ الآتي... وأصبحَ مرجعاً...
واختفت أمواجُ البحرِ وغفَت بين مياهِه دعواتُ التكريمِ لحارسِ المزارِ... مشى أطفالُ الأسماكِ أمامَه، خلفَه، وحولَه مواكبةً حتّى تنشّقت الخشبةُ رائحةَ فكرِه. ركعَ من جديد وبدأت تراتيلُ الصلاةِ تُقذفُ من بين خياشيمِ براءةِ ولطفِ الأسماكِ وقد حملت بين أسنانِها الشموعَ الضخمةَ التي أخفى لهيبُ نارِها السماءَ ومن فيها بجوانح طائر النورس المرسوم من ألوان لم تولد بعد، خيَّطَها الحارسُ الساخرُ... وبغيابِ الموجِ انتشرَت فقاقيعُ المياهِ الكرويّةِ التي تُشبِهُ الكوؤسَ الممتلئةَ بنعمةِ النبيذِ الأحمرِ المعتّق، وبدأت طرطقةُ الفقاقيعِ تعلو ويتسرّبُ إيقاعُ نبيذِها الى البحرِ الهادىءِ وعبرَ سواقٍ بأحجامِ حبالِ الحياة...
         شربَتِ المياهُ النبيذَ، وتغيّر لونُها، ونبتَت بساتينُ الليمونِ بينَ جبالِ البحرِ ووديانِه وأصبح سهلُ البحرِ شلالاتٍ تصنعُ رناتِ السعادة...
          تجمَّدَ فجأةً، نظرَ حارسُ المزارِ ولثوانٍ معدودةٍ، فرأى سفينةً بين آثارِ مدينتِه المعمّدةِ بصخرِها، يجرُّها أطفالُ الأسماكِ على عربةٍ مصنوعةٍ من حسكِ أجسادِهم، يعاونُهم المرضى وكبارُ السنِّ والمقعدون. ازداد تركيزاً، سهى وحدّق بوعيِه في السفينةِ التي تقتربُ منه لحظةً بلحظةٍ وبسرعةِ صاروخِ البحر. جزمَ صاحبُنا بأن قاعدةَ الباخرةِ مصنوعةٌ من اقسى أنواعِ الخشبِ الساخرِ، ففرحَ خشبُ البرِّ والبحرِ والفضاءِ حتى وصلت سعادةُ السخريةِ إلى عالمِه الداخلي، فصادقَها. سفينةٌ يسخَرُ خشَبُها من نفسِه، فكان تصفيقُ الأسماكِ والطيورِ في قعرِ البحرِ صدىً لردودِ الفعلِ عليه فرحةً واحتفالاً وتكريساً للعيد بتقاليد أهل البحر عندما طافت أسنانُهم الذهبيةُ على زوايا المياه... أجلسوا الساخرَ في السفينةِ فعادت موجاتُ السخريةِ تزرعُ رمالَ البحارِ شتولاً من ذهبِ الحيواناتِ الناعمةِ ومن سكينتِها، وتواضُعِها ومن التزامِها الصادقِ مع الآخر...
أصبحت ذاكرةُ حارسِ المزارِ الشكليّة والمركّبة من الأشكالِ والألوان، جسراً بين البداياتِ والحاضر...
          فجأةً، هربتِ الأسماكُ الى المنصّةِ في وسطِ السفينةِ وفجأةً أيضاً هبطَ النورسُ وزيّن أطرافَها بورودِ البحرِ وحدّقَ الجميعُ في المدى ورتّلَ:
بالفينيقةِ صورُ تعني الصخرةَ
ومن صخرةِ السينورافيا غازي قهوجي.


 بروفسور طلال درجاني 
20-9-2013     

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق